فهرس الموضوع
في لحظةٍ من الحماس، يضغط السائق على دواسة الوقود، فيتسارع النبض وتتسارع السيارة. يتجاوز السيارات الأخرى بثقة، وكأن الطريق ملكٌ له وحده. لحظة نشوة لا تتعدى ثواني، لكنها قد تجرّ خلفها كارثة. السرعة الزائدة ليست مجرد مخالفة مرورية، بل سلوك محفوف بالمخاطر، يلغي لحظات الفرح بذكريات الألم والخسارة.
وهم السيطرة
أغلب من يقود بسرعة يظن أنه “يتحكم” بالمركبة. يرى نفسه محترفًا، مختلفًا عن الآخرين. لكن الحقيقة أن قوانين الفيزياء لا تميز بين سائق متهور وآخر حذر. عند السرعة العالية، تقل قدرة السيارة على التوقف، ويصعب التحكم بها عند أي منعطف أو طارئ. ومع كل كيلومتر إضافي في السرعة، تتضاعف احتمالية وقوع حادث.
الطرقات لا تخلو من المفاجآت: طفل يعبر فجأة، سيارة تتوقف اضطرارًا، مطر مفاجئ، إطار ينفجر. وفي تلك اللحظة، لا ينفع الندم ولا الخبرة. السرعة الزائدة تجعل من الحوادث أمرًا شبه محتوم.
الأرقام لا تكذب
وفقًا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية، تُعتبر حوادث السير أحد أبرز أسباب الوفاة عالميًا، ويُعزى جزء كبير منها إلى السرعة الزائدة. في كثير من الدول العربية، تُسجّل مئات الوفيات سنويًا بسبب حوادث ترتبط مباشرة بتجاوز السرعة المقررة.
على سبيل المثال، تشير بيانات من بعض الدول الخليجية إلى أن السرعة الزائدة تُشكّل ما بين 30% إلى 50% من أسباب الحوادث المميتة. وفي كل مرة يُسجَّل فيها حادث، لا تتوقف الخسائر عند الأرقام؛ هناك أرواح تُفقد، وأسر تتمزق، ومستقبل يتغير.
لذة لا تدوم
السرعة قد تُشعر السائق بالقوة والنشوة، لكن هذا الشعور مؤقت. بمجرد وصوله إلى وجهته، يزول كل ذلك. هل كانت 10 دقائق من القيادة السريعة تستحق المخاطرة بحياة إنسان؟ ما قيمة الوصول مبكرًا إن كانت النتيجة خسارة دائمة؟
في المقابل، من يسير وفق النظام، قد لا يشعر بالإثارة نفسها، لكنه يضمن السلامة له ولمن حوله. كثير من الحوادث تقع لأناس أبرياء لم يكونوا السبب، بل دفعوا ثمن تهور غيرهم.
التأثير على الآخرين
السرعة الزائدة لا تضر السائق وحده. بل قد يكون الضحية أحد المارة، أو راكب في سيارة أخرى، أو حتى أحد أفراد أسرته في نفس المركبة. كما أن الأثر النفسي لحوادث السرعة كبير: شعور بالذنب، اضطراب ما بعد الصدمة، فقدان الأعزاء، كلها نتائج لا تُقدّر بثمن.
حتى إن لم يقع الحادث، مجرد القيادة بسرعة عالية في الأحياء أو الطرق المزدحمة تبث الخوف والقلق في نفوس الناس. الأطفال يخافون من عبور الطريق، كبار السن يشعرون بعدم الأمان، وكل ذلك بسبب سائق واحد يعتقد أن السرعة “حرية”.
مخالفة القانون
كل أنظمة المرور تحدد سرعات معينة لكل طريق، بناءً على دراسات تتعلق بالأمان، وظروف الطريق، وكثافة الحركة. تجاوز تلك الحدود لا يعكس مهارة، بل جهلًا بالقوانين واستهتارًا بالغير.
والعقوبات ليست رمزية. في كثير من الدول، السرعة الزائدة تعني غرامات مالية ضخمة، خصم نقاط من رخصة القيادة، أو حتى السجن في بعض الحالات. وبعض الحوادث تُصنف جنائيًا، ما يترتب عليه مسؤولية قانونية مدى الحياة.
الجانب الاقتصادي
بعيدًا عن الأرواح، السرعة الزائدة لها كلفة اقتصادية مباشرة. حوادث السيارات تكلف الحكومات والشركات والأفراد مليارات الدولارات سنويًا. تشمل هذه التكاليف إصلاح المركبات، فواتير المستشفيات، التأمين، وتأثير الحوادث على الإنتاجية والعمل.
كما أن السيارات التي تُقاد بسرعة عالية تستهلك وقودًا أكثر، وتتآكل أجزاؤها بشكل أسرع، مما يعني صيانة متكررة ومصاريف إضافية. باختصار، السرعة الزائدة لا توفر وقتًا بقدر ما تستهلكه مالًا وأعصابًا.
الحل: وعي والتزام
الحد من السرعة الزائدة لا يتم فقط عبر العقوبات، بل عبر بناء وعي مجتمعي بأن القيادة مسؤولية. المدارس، الإعلام، الأسر، وحتى الأصدقاء، كلهم لهم دور في نشر ثقافة القيادة الآمنة.
يجب تعليم السائقين الجدد أن احترام السرعة ليس ضعفًا، بل احترام للحياة. ويجب أن يشعر السائق أن تجاوز السرعة ليس فقط خطأ قانونيًا، بل خطيئة أخلاقية بحق المجتمع.
التكنولوجيا كوسيلة ردع
اليوم، تُستخدم الكاميرات الذكية، وأجهزة تتبع السرعة، وحتى أنظمة ذكية داخل السيارات لتنبيه السائق إن تجاوز السرعة المحددة. التكنولوجيا أصبحت وسيلة مساعدة للحد من هذا السلوك.
بعض السيارات الحديثة تُبرمج بحيث لا تتجاوز سرعة معينة داخل المدن. كما يمكن للآباء مراقبة سرعة سيارات أبنائهم المراهقين عبر تطبيقات الهاتف. هذه الأدوات يجب أن تُستخدم كجزء من منظومة شاملة تهدف إلى إنقاذ الأرواح.
تجارب واقعية: شهادات من قلب الألم
“لحظة واحدة غيّرت كل شيء”
سامي، شاب في العشرينات، كان يقود بسرعة جنونية مع أصدقائه في أحد شوارع المدينة ليلاً. يقول:
“كنت أظن أنني أتحكم بكل شيء، والموسيقى بصوت عالٍ، والضحكات تملأ السيارة. فجأة ظهرت سيارة أمامي، حاولت تفاديها، وانقلبت السيارة مرتين. استيقظت في المستشفى، أحد أصدقائي توفي، والآخر لا يزال يعاني من إصابة في العمود الفقري. لم يكن هناك أي مبرر لما حدث، سوى أنني أردت أن أشعر بالإثارة لبضع دقائق.”
اليوم، يعيش سامي مع تأنيب ضمير دائم، يقول إنه لا يمر يوم دون أن يتذكر وجه صديقه، ويشعر أن حياته توقفت في تلك اللحظة.
“كنا نمشي على الرصيف”
أم مازن، امرأة خمسينية، فقدت ابنها الوحيد في حادث دهس. تقول:
“كان مازن يمشي بجانبي بعد صلاة العشاء. فجأة سمعنا صوت سيارة مسرعة، لم أتمكن من رؤيتها حتى. كل ما شعرت به هو صوت اصطدام، ثم سكون. لم أستوعب أن ابني غادر الحياة أمام عيني، بلا مقدمات، بلا وداع.”
تعيش أم مازن منذ سنوات على الذكريات، وتقول إن أكثر ما يؤلمها هو أن السائق كان شابًا صغيرًا يقود بسرعة تفوق 140 كم/س داخل حي سكني.
“كنت أنا السبب”
هشام، موظف في منتصف الثلاثينات، يتحدث عن حادث تسببت فيه سرعته الزائدة:
“تأخرت على موعد مهم، فقررت القيادة بسرعة عالية رغم الزحام. لم أنتبه لإشارة المشاة، ودهست رجلاً مسنًا. نُقل إلى المستشفى وتوفي بعد أيام. لم أعد نفس الشخص بعد ذلك. تم سحب رخصتي، وتعرضت لمساءلة قانونية، لكن العقوبة الحقيقية هي أنني حملت ذنب هذا الفعل في قلبي.”
يؤكد هشام أن أي ضغط أو تأخير لا يبرر الاستهتار بالسلامة، ويقول إن كل شيء يمكن تعويضه إلا الحياة.
لا تستحق المجازفة
السرعة قد تُعطي شعورًا بالتحرر، لكنها خدعة قاتلة. كل من فقد حبيبًا أو صديقًا بسبب حادث ناتج عن سرعة زائدة، يعرف معنى الحسرة التي لا تنتهي. وكل من نجا من حادث بسبب السرعة، يعلم كم كان قريبًا من نهاية مأساوية.
القيادة ليست سباقًا. الطريق ليس حلبة. والسيارة ليست لعبة. دقيقة إضافية من الحذر قد تُنقذ حياة، أما ثانية من التهور فقد تُفقدك كل شيء.
السرعة الزائدة لذة مؤقتة، لكن ثمنها باهظ، وأحيانًا لا يُدفع بالمال، بل بالدموع والذكريات والندم.